حديثي عن ما يلجأ إليه بعض شعراء العرضة الجنوبية - حتى القدامى منهم - من لوي عنق كلمة معينة ليخرج منها كلمة أخرى تسمى شقرًا .
نحن أهل موروث العرضة الجنوبية نستمتع جدًا بأبيات الشقر ، وكلمات الجناس التي تطربنا ، ونستطيع أن نفهم الكلمة التي يوردها الشاعر في قصيدته الجنوبية - حتى وإن كانت غير صحيحة لغويًّا - من إيحاءاتها ومن مسار بيت القصيدة .
لكن الإشكالية في المجتمع البعيد عن شعر العرضة والغير ملمّ به . لن يفهم الكلمة ، وسيراها من أبعاد أخرى تجعل شعر العرضة في غيابة الجبّ.
سأورد لكن أمثلة من الشقر المتزمّت لكي تتضح الصورة كاملة...
سمعتُ شاعرٌ يقول :
ماحنّا عميٍ ولا خرسنة
كل من ينتمي لشعر العرضة يعلم أن ما يعنيه الشاعر من كلمة ( خرسنة ) في البيت السابق - طبعا في شعر العرضة يسمى بيت وليس شطر - مايعنيه هو الخرس وهو عدم المقدرة على الكلام.
لكن لماذا أتى الشاعر بالكلمة بهذه الطريقة الخاطئة ؟
لكي يمهّد لرد الشاعر الآخر ، الذي ردّ قائلًا :
احسبوا لاوّل ولآخر سنة
نلاحظ أن بيت الرد جميل ، وصحيح . لكن البدع كان ضعيف وخاطئ .. وكأن الشاعر الأول يلوي عنق الجمل لكي يشدّ الخطام .. !
وهناك من قال :
خل الدركتر يبعثرها بجينازياره
( جينازياره ) أي ( الجنزير ) !
طبعا لكي يقول الآخر :
اليوم يبخل علينا مايجينا زياره
أعلم أن الكثير يستمتع بمثل هذا الشقر، لكن يا كرام هل نستمتع بالخطأ ؟
أنا أحمل كل الود لكافة شعراء العرضة ، وأنا متيقن أن الشعراء الذين أوردتُ نماذج من أشعارهم آنفًا ؛ عظماء ولديهم قصائد فخمة تصنّف من عيون شعر العرضة ، ولستُ واللهِ متصيّد للأخطاء، لأن الكل يخطئ وليس بيننا الآن معصوم من الخطأ ... لكن القصد أن نصحح الخطأ حبًّا لموروثنا العظيم .
هناك بالمقابل أمثلة من شعر الشقر ، قصائد عرضة جنوبية ، متخمة بالإبداع ، وبالجناس الصحيح الممتع والجميل ..
يقول الشاعر بن حواش :
احذر من الكهربا والسلك مجروحي
أنا سوى دولتي ثاني ( دول مرضى )
الرد من الراحل محمد بن مصلح :
حليل من هو مرض والقلب مجروحي
وعسل السدر قالوا لي ( دوى المرضى )
وأيضا في فنّ الشقر يقول الشاعر عبدالوحد الزهراني :
قلتها يابفت لا والله مامثله (نسيج حد )
مصنعه في دولة اليابان ماهو في ( مداين سينا )
وخيوطه ما تلبيها الذليل ( ولا تُخاط له)
ليأتي الرد من الشاعر عبدالله البيضاني :
أما أنا عاشرت لي مخلوق لكنّه ( نسي جحد )
ما احسب الدنيا تفرّقنا ولا بعد ( المدى ينسينا )
قام يحذفني ويرميني وأنا كنت ( اتخاطله )
..الخ
نلاحظ أنه بحرفنة الجناس في الأمثلة السابقة، وبساطة المعنى بدون تكلف ، خرج لنا شقر جميل ينبغي أن يكون هو النبراس لكافة شعراء الجنوب.
شعر العرضة شعر بسيط ، لذا نحن لا نطالب شعراءه بالرحيل في مدارات الخيال ، وحرث الغيم ، والكتابة على البحر ، وتشخيص الجمادات ، أو الخوض به في غمار الشعر الحداثي... لأن شعر العرضة جُلّ متذوقيه ومتلقيه من عامة الناس الذين يعشقون هذا الفنّ المميز ببساطته وسلاسته ووضوح مفرداته وقربها منهم.
مختصر المقال أن الخطأ الذي يقع به الكثير من شعراء الشقر ؛ يعلمون أنه خطأ ، لكن يتجاهلون ذلك من أجل إبداء مقدرتهم على الإتيان بكلمات شقر تطرب لها أذن المتلقي...
والكثير من النقاد المهتمين بشأن العرضة الجنوبية ، تحدث عن هذا الخطأ الفادح ، وبينوا أن هذا الخطأ يضرّ بشعر الشقر ولن يجعله يتقدم ، ولن يتجاوز إقليميته نهائيًا .
نحن نعلم أن الجناس محسن بديعي فخم ، ومميز ويرحل بالأذهان لامتدادات خيالية جميلة ، وأن شعر العرضة قائم على الجناس كميزة يتميز بها عن كل الفنون الأخرى في الخليج العربي . لكن لا ينبغي أن نقع في أخطاء لغوية يلومنا ويسخر منّا الآخرون بسببها ..
ما المانع إن لم يجد الشاعر الذي يقوم بمهمة البدع أن يختار الرويّ المناسب لقصيدته وأن لا ينطق إلا الكلمة الصحيحة لغويًّا حتى ولو كان لا يتضح منها الجناس، وأيضًا لا يمنع أن يقوم الشاعر الذي يؤدي مهمة الرد بالإتيان بجناس ناقص من الكلمة بدلًا من أن يلعب باللغة ويُضحِك على فنّنا البشرية لكي يأتي بجناس تام .
بقلم / معيض العمري
10/01/2019 05:46 pm 1,475